- الطيب ولد العروسي
لا بد من التنبيه والتذكير بأن الترجمة تعتبر جسر تواصل بين الأمم والشعوب والثقافات، وهي من بين أهم الوسائل التي تثري وتنشّط حوار الثقافات والحضارات، بشرط أن تتم وفق معايير واستراتيجيات واضحة المعالم ومدروسة، مرتكزة على أهداف، حتى نعرف لماذا وماذا نترجم؟ وما هي الأولويات التي يجب وضعها كي ننمو بهذا الفعل الحضاري المميز؟
أثمّن جهد كاظم جهاد في كتابه الموسوعيّ الصادر في بيروت، عن دار الجمل بعنوان "حصّة الغريب/ شعريّة الترجمة وترجمة الشعر عند العرب"، ترجمة محمد آيت حنّا، يقع في 606 صفحات من الحجم الكبير ويحتوي على مقدمة المؤلف للطبعة العربية، ومقدمته للطبعة الفرنسية، وقسمين الأول يحتوي على ستة فصول والثاني على سبعة فصول متبوع بخاتمة وفهرس للأعلام وقائمة هامة وثرية بالمراجع العربية والغربية.
تجدر الإشارة إلى أن كتاب "حصّة الغريب"، أُلف في الأصل باللغة الفرنسية، وحينما ترجم إلى اللغة العربية، قرأها ووافق عليها المؤلف، بل وزكّاها، وهذا فعل في حد ذاته مشجّع وميسّركفعل ترجمة، حتى إذا طبع الكتاب ووُزّع تكون عملية التزكية هذه بمثابة دافع جيد للتحريض على قراءة الكتاب واعتماده، أي أن لا يكون محتوى الترجمة غريبا عن محتوى أو مقصد الكتاب المترجم.
وهذا ما يدق جرس إنذاره الكاتب في بحثه القيّم، حيث يقرأ كاظم جهاد نفسه في لغته العربية التي بها ينقد ترجمات الآخرين، مقاربا نفسه ومرآة منهجه النقدي بمنظارالغريب، أي أنه يبحرنا فيما سماه بـ "فداحة الغربة التي تفرضها ترجمات الآخرين على النصوص"، كأنه يريد تعويض الخسارة.
يدرس أو يشرح المؤلف مفهوم الترجمة متوقفا عند آراء بعض الفلاسفة والشعراء الغربيين الذين اشتغلوا عليها في منجزهم الفكري من هايدغر وهولدرلين وغوته، إلى دريدا "فيلسوف الترجمة".
فالترجمة يجب أن تحترم الآخر لتكون في "خدمة الغريب باحترام لغته، وطورا ترمي إلى تطمين وتحفيز"رغبة القارئ في تملك النص"، وهنا يعلل موقفه برأي الشاعر الفرنسي ميشيل دوغي الذي يؤكد على أننا "يمكن أن نفهم من الترجمة معنى الاستذكار واستعادة الذّاكرة داخل لغة ما، إنه الجهد الذي نبذله في سبيل الذّهاب نحن أنفسنا شطرَ ماض ما، وجعل هذا الماضي نفسه يخطو في اتجاهنا. وذلك بالشكل نفسه الذي قد ينتهجه بيكاسو في التصوير، حين يذهب بنفسه شطر بيلاسكيث أو دولاكروا عبَر استدعائه أو ترجمته "لهما داخل لوحاته""، أي تضحى الترجمة نوعا من التناص أو إعادة الكتابة ،
كما يؤكد ذلك بقوله"أن نفهم شيئا ما ليس معناه جعل ذلك الشيء تابعا لنا، وإنما معناه أن نخرج من تمركزنا وننتقل إلى مركز الشيء نفسه "…" وينبغي أن توحّد اللغة، في جوهرها، باعتبارها خروجا من المركز، فلن يكون بوسعنا الإبانة عن ذواتنا ما لم نلج نسق الآخر".
هذا وتطرق المؤلف إلى النظرة الاستعمارية التي تريد من الشعوب المستعمرة أن تكون تابعة لها بإخضاعها لتعلم لغتها، وبالتالي جعلها هي السيدة والسائدة، كما حلل المؤلف آراء بعض المستشرقين في نفس الموضوع، وفضح لعبتهم التي لا تخلو من بعض الدسائس وهي "تدور رحاها دوما لصالح المستعمر" .
وقف المؤلف عند الكثيرمن الهفوات التي ارتكبها المترجمون العرب، حتى أنهم غرّبوا النص الحقيقي، ولم يعد لا نصا عربيا ولا نصا جاء بلغته الأصلية، خاصة عندما يتعلق الأمر"بتلك العادات الموروثة عن الناقلين غير الأكفاء، من "متصرف بالمعنى يزيد وينقص على هواه فيفسد النقل ويضيع الأصل" إلى "مسرّع يضن على عمله بالوقت الكافي لفهم النص فينقل ويضيع العبارة كما يفهمها من الوهلة الأولى، تاركا المعاني "تنعكس على كره منه"، زد عليه التشويه المقصود الذي يأتي"من ماسخ يلبس الترجمة ثوبا يرتضيه لنفسه فينقلب بالمعاني على ما يطابق بغيته ويوافق خطته فلا يبقى للأصل أثر".
تلخص هذه الفقرة مجموعة من المعطيات التي تتماشى وواقع أغلب ما ترجم حتى الآن، وهذا ما يؤكده المؤلف حينما يتطرق إلى ترجمات الأدباء العرب المعاصرين: سعدي يوسف، خليل الخوري، فؤاد رفقة، بدوي وأدونيس، حيث يرى بأنهم وصلوا إلى ما أسماه المؤلف بمفهوم "الخيانة المزدوجة"، لّأنه يُعيب على المترجمين تجاهلهم حتّى في لغتهم العربية مثل هذا الفعل الذي يسبب غيابه ضعضعة العمل الإبداعي، ويجعله محصورا في فهم المترجم ذاته، ويستشهد في هذا المجال بودولف بانفيتزالذي يقول :"إنّ أحسن ترجماتنا تنطلق من مبدأ خاطئ، وهي تزعم إضفاء الطابع الألمانيّ على السنسكريتية والإغريقية والإنكليزية بدل العكس، أي إعطاء الألمانية طابعا سنسكريتيا وإغريقيا وإنكليزيا".
تعتبر الترجمة خيانة اللاخيانة، بتعبير أدقّ خيانة الخيانات، فالنصّ مندسّ بآخرين قبل مؤلفه، وهذا اللبس يحفظ استمراره، مثلما يعمّر طويلا الجلد الأسمر بفعل تلّبسه أشعة الشمس بخلاف الجلد الأبيض الخالي منه. يعبر عن هذا الوضع دريدا بالقول : "يا له من ديَن عجيب لا يَدين به أحدٌ لأحد"، بمعنى خيانة لا أحد.
يعتمد المؤلف على أمثلة ملموسة لبعض الترجمات، إذ يقف عندها ويبيّن فيها مواطن الخطأ ويصوّبه حتى يثبت كيف وردت هذه الترجمة، إما ضعيفة أو غير صادقة أو قاصرة أو مدّعية، لكن في نهاية المطاف هي تسيء إلى النص المترجم، كما يؤكد المؤلف فإن الترجمة هي فعل أيضا لإثبات الذات، وهذا ما وصل إليه في القسم الأول حينما اهتم باجتهاد الآخر.
أما ما يترجم إلى العربية فهو يرى أن الترجمة فيه" تتحول إلى مجرد انتظار لما ينتجه الآخر، فإنها تشير إلى حالة مرضية تتسم بضعف القدرة على الابتكار وغياب المبادرة"، وهو يعني غياب استراتيجية للعمل الترجمي، ويعلل ما أتى على ذكره قائلا" لقد حاولنا، طيلة هذه الدراسة، فحص مدى انتقال الأشعار الأجنبية إلى اللغة العربة، وهو انتقال ليس بالمؤكد تماما، ولا هو بالممتنع نهائيا، لا بل يتوقف على عوامل عدة، أولها قطعا كفاءة كل مترجم والوسائل التي يتوسل بها، ثم الاستراتيجية التي ينتهجها في عمله، ولا تستثني من اللعبة تلك العلاقات التي توجد أو تنعدم بين اللغة المترجمة ولغة النص الأصلي، إضافة إلى درجة الألفة التي تجمع قارئ الترجمة بالشعر"
أعتقد أن المؤلف لخّص وبشكل موضوعي حالة الترجمة والمترجمين في العالم العربي، والتي يقول فيها "لا يمكننا إلا أن نبدي أسفنا للتشتت الذي يطبع ترجمة الشعر، ولغياب مبادرات جماعية ونظريات شاملة"، وفاته، في رأيي، أن يقول غياب المعاجم حتى العربية العربية التي – من المفروض- أن تعمل على ترجمة الكلمات التي تغزونا يوميا والتي يجتهد فيها كل على هواه، علاوة على غياب مؤسسة عمل جماعي حقيقي تسهر على رسم أهداف واضحة لترجمة ما نحن بحاجة إليه، أو ما يضيف شيئا لمعارفنا، وتقديم ذاتنا بشكل موضوعي وعلمي، والمؤلف يعرف تماما بأن ما يترجم من وإلى اللغة العربية – حسب التقارير الدولية – لا يتجاوز واحد في المئة، بينما الدول الأخرى تولي الترجمة مكانتها المهمة وتعمل على نقل العلوم وإثبات الذات بشكل مبني على أسس علمية حقيقية.
والمؤلف لا يقدم نقدا أو قراءة للترجمات التي قام بها بعض الكتاب والشعراء من باب تجريحهم أو التهكم عليهم، بل يهدف إلى "مناقشة بعض الأولويات أو العادات الترجمية السلبية، وإلى تعطيلها وإثبات بطلانها إن أمكن الأمر، كما أن هذا النقد لا يعني أن كل ما قام به المترجمون من مجهودات في موضوع النقد باطل ولا جدوى منه، بل يتعلق الأمر مرة أخرى بالتقاط ممارسات إشكالية والسعي من خلال نقدها إلى اقتراح إجراءات جديدة من شأنها أن توسّع مجال الإمكان أمام الفعل الترجمي محصورا هنا في ميدان ترجمة الشعر بخاصة"، وهو بهذا لا يدّعي أنه خاض في ترجمة كل الأنواع الأدبية، غير أنه في رأيي تصدى لأكبر وأصعب شيء والمتمثّل في ترجمة الشعر.
يطالب المؤلف بحصّة الغريب التي تعني الرعاية والمشاركة، وهما مفقودان في أغلب الترجمات العربية، لأنها تعني الضيافة الخالية من القبول غير المشروط، إنها ضيافة ناقصة بخيلة تشبه الجسر، تشبه التسامح والاحترام.
المصدر: العرب اونلاين
0 comments:
آپ بھی اپنا تبصرہ تحریر کریں
اہم اطلاع :- غیر متعلق,غیر اخلاقی اور ذاتیات پر مبنی تبصرہ سے پرہیز کیجئے, مصنف ایسا تبصرہ حذف کرنے کا حق رکھتا ہے نیز مصنف کا مبصر کی رائے سے متفق ہونا ضروری نہیں۔اگر آپ کے کمپوٹر میں اردو کی بورڈ انسٹال نہیں ہے تو اردو میں تبصرہ کرنے کے لیے ذیل کے اردو ایڈیٹر میں تبصرہ لکھ کر اسے تبصروں کے خانے میں کاپی پیسٹ کرکے شائع کردیں۔